ساحة حرة

الأربعاء 02 يناير 2019 04:53 مساءً

عبدالعزيز الموصل
لم يعد المكان كما كان في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، لقد فقد عمقه الذي كان يستمده من هدوءه ونبل سكانه ، ومن انزياحات لغته اليومية البهية والرائعة، ومن طرائف ونوادر عائلات معينة، ومن قناعات مناضلين شرفاء، ومن حب الناس لبعضهم البعض، ومن جلسات السمر الممتعة التي كانت تقام في الأحياء. والاستريوهات حمدي استريو الخيسه وبستان الحسيني والى .. الخ.
لقد رحلت الوجوه التي كانت تؤثث المكان، مخلفة فراغا هائلا لا يمكن سده.. غاب "فيصل" علوي صاحب الرأس الكدش(الافروا) المشع والذي كان يغني بصوت قوي على إيقاع رقصته على أديم الأرض وفرقته الفتية اللحجية والابينية والعدنية. وغابت فرقة الانشاد ، وغاب "بن حمدون والعزاني والميسري ودحان وبوبل الذينا كانوا يحولون شرايطهم الأسواق، . ورحل" البعم " و"حلوم" اللذان كانت لهما بلاغة متميزة تحتاج إلى متلق ذكي.. لقد جلسا ذات صيف جانب البوفية اي الكافيتريا صاحب الليم والثريب والسوق الأسبوعي القديم .. البعم يأكل خبزا محشوا بالسردين وحلوم يكرع ماء الحياة .. وعندما طلب البعم من حلوم أن تسقيه بما تيسر من عصير الليمون ، أجابة حلوم:النفط مقابل الغذاء ..! وغابات دور السينما (ريجل ) والمعلا والشابات . ورحل صاحب الزعقاء في ميدان الحبيشي لمن يذكر اسمه كان الشباب ينادوه (مريم ) ورحل "المناضل" الحفيد الأخير لكونه ظل وفيا للنار ورمادها ومتماهيا معهما في جميع الفصول دون أي تبرم .. ورحل" المطرب" الذي كان يطرب ويمتع حيث كان يكسر أفق انتظار من يسأله بإجاباته العميقة جدا، وكم كانت تعاليقه ساخرة وهادفة ،تستهدف قضايا مثل الرشوة والانتخابات والبرامج الحوارية المطرب فؤاد الشريف. ورحلت البرامج التلفزيونية مع امل بلجون .
فكلام عن عدن ووضعها الحالي يستحق بامتياز أن يكون موضوع كتاب حول "السخرية الهادفة". ولن نبالغ إذا ما أشرنا إلى الذين يدعون بأنهم فنانون ساخرون ويطلون علينا من خلال شاشتي القناة الأولى والقناة الثانية، .
أن الأسماء التي ما تزال على قيد الحياة والتي تشكل علامات و أيقونات لافتة في المكان والزمان ، في عدن ، ذلك أنه يطلق العنان يوميا لقدميه متفقدا أمكنة عديدة ليشتم رائحة عمرانها وأناسها، وليتأمل سحنات ساكنتها بعفوية عصية على التحديد.. ويقنع ببعض الدراهم لا غير ، وإذا دس أحد في كف عدن ورقة نقدية من فئة 100دولار فإنه (عدن) يلاحقه رافعا صوتا بكائيا للتخلص منها وكأنها جمرة حارقة تلتهم أصابعه، مرددا "آه يامك.
ونظرا لخصوصية عدن المثيرة ، فقد تغنى بها كثير من الشعراء لجمالها بالطريقة التي تروقها وهي تمشي بخطى جد وئيدة، عاملة بنصيحة المعري في بيته الشعري:
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.. وكفتيحة ذات الجسد الصلب والتي كانت قبل أن تصاب بكسر في أحد ساقيهاء تصاحب كل فرقة موسيقية شعبية (برنامج سمر) راقصة بشكل مثير يحتاج فقط إلى ريشة الفنان العالمي دييغو ريفيرا... هذه الأسماء العلامات تعيش الآن بالمكان يتما مؤلما باعتبار أن درجة التجاوب معها عرفت تراجعا مهولا وأصبحت عدن اليوم قرية بل غابه من الوحوش تقتل وتنهش وأعمال فساد وسطوا على املاك الاخرين بحجة السلطة. والمناطقية انتنه. ، ويكمن السبب في منظومة القيم الجديدة التي أصبحت تشرنق المكان ، وهي منظومة حولت الإنسان من كائن كان يحيا أكثر من حياة في المكان والزمان إلى كائن منكود جريح بدون كينونة وبدون مكان!!

